إيران تخطط لمشروع جموح يهدف إلى ابتلاع الخليج العربي
لعل الدورة الاستثنائية التاسعة والثلاثين للمجلس الوزاري لمجلس التعاون الخليجي، والتي أنهت اجتماعات اليوم الواحد في الدوحة يوم الثلاثاء الماضي، قد اتخذت قرارات مهمة وعملية غير ما تم الإعلان عنه في البيان الختامي أو في تصريحات الوزراء الذين شاركوا فيها، وهذا أمر منطقي بل ومطلوب في ظل ظروف إقليمية ودولية قلقة، ناتجة عن اختلال موازين القوى المتصارعة على توسيع مصالحها ومن ثم تكريسها في منطقة حافظت على أهميتها الاستراتيجية منذ بدء عصر الفتوحات الاستعمارية، حتى بدت إيران في ظل هذا الوضع المضطرب، وكأنها القوة الوحيدة القادرة على فرض وجهات نظرها على دول المنطقة، إما بقوتها المستعرضة بالمناورات العسكرية الدورية التي تجريها، أو بقوة خلاياها النائمة أو أذرعها المنتشرة في بعض الدول التي غفلت عن مواجهة مثل هذه الأخطار، بحيث باتت تلك الخلايا بانتظار إشارة التحرك من طهران لتعبث بأمن دول الخليج العربي، بعد أن أعطى إيران وضعها الخاص كشريك استراتيجي للولايات المتحدة، في العراق بعد عام 2003 شعورا طاغيا بالتفوق الإقليمي على دول المنطقة مجتمعة، وعلى الدول التي لها مصالح استراتيجية فيها.
إن الحديث عن الحوار والاحتكام إلى منطق القانون الدولي، لا يمكن أن يحصل بين طرفين غير متكافئين أو على الأقل متقاربين في القوة العسكرية والاقتصادية، لأن أي خلل في موازين القوى لصالح أي من الجانبين، سيفسره الجانب القوي على أنه فرصة لانتزاع تنازلات سياسية وجغرافية من الطرف الضعيف، وربما يأخذ هذا الحكم بعدا أكثر أهمية إذا كان الطرف الآخر هو إيران بالذات، المعروفة بأنها لا تحترم تعهداتها المثبتة بالاتفاقيات والمعاهدات التي تبرمها مع الدول الأخرى، وربما تعد ذلك قمة الشطارة والمهارة السياسية والدبلوماسية، ولهذا يمكن النظر إلى تصريحات وزير خارجية دولة الإمارات العربية التي حث فيها إيران على بدء المفاوضات بشأن الجزر العربية الثلاث، أو اللجوء إلى محكمة العدل الدولية، على أنها تعبر عن أمنيات ونوايا خير لن تجد طريقها إلى التنفيذ، لأن إيران تمسك بالأرض أي تحتل الجزر الثلاث، ومن يمسك بالأرض لا يخسر كثيرا من مرور الوقت والذي سيكرس حقائق جديدة، أما الطرف الآخر فإنه وإن كان الحق معه وبصرف النظر عن درجة ذلك، إلا أن الأوراق التي بيده لا تعطيه هامشا من المناورة التي يحشر خصمه في زاوية حرجة تدفعه لتقديم تنازلات غير مضطر لها، ثم أن إيران ومن خلال تصريحات كبار مسؤوليها ليست على استعداد لمجرد التفكير بالبحث في قضية الجزر، التي تعتبرها ملفا مغلقا وأرضا إيرانية وستبقى كذلك، على حد قول علي أكبر ولايتي وزير الخارجية الإيرانية الأسبق والمستشار الأعلى للشؤون الخارجية لعلي خامنئي مرشد الثورة الإسلامية الإيرانية، أما محكمة العدل الدول فلا يسمح لها قانونها بالنظر بأي قضية ما لم يتفق طرفا الأزمة على إحالتها إلى المحكمة، على ذلك فينبغي البحث عن مداخل جديدة للتعاطي مع هذا الملف، غير افتراض حسن النية عند إيران، فما جدوى الحديث عن الالتزام بالمطالبة بالحقوق السيادية لدولة الإمارات العربية من خلال الخيار السلمي وضمن أطر القانون الدولي، إذا كان الطرف الآخر يستهين بهذه المبادئ وينظر إليها على أنها عربة الضعفاء للوصول إلى أهدافهم من دون عناء أو تضحية؟
مفاوضات الأقوياء
إن الجلوس على مائدة المفاوضات، سيبقى ضربا من الخيال ما لم يشعر طرفا المعادلة، أن هناك قوة عسكرية تقف خارج قاعة الحوار على أهبة الاستعداد لتعديل الاختلال في موازين القوى، وربما كان من العبث المراهنة على الدعم الخارجي المفترض من جانب قوى دولية كبرى وخاصة الولايات المتحدة والتحالف الغربي، لمعالجة وضع في منطقة كانت تنظر إليها باعتبارها ساحة صراع ساخنة مع قوى دولية منافسة، وكما أن الولايات المتحدة نظرت إلى القارة الأمريكية على أنها الحديقة الخلفية لها، كما جاء في مبدأ الرئيس الأمريكي جيمس مونرو الذي حكم قبل نحو قرنين، والذي أكد في رسالة وجهها إلى الكونغرس في 2 ديسمبر 1823، بأن نصف الكرة الغربي هو منطقة نفوذ لبلاده لا يحق لأية دولة أوربية منافستها فيه، فإن واشنطن اعتمدت على مبدأ ملء الفراغ الذي جاء به الرئيس دوايت آيزنهاور الذي حكم في خمسينات القرن الماضي، لبسط هيمنتها على الوطن العربي وخاصة منطقة الخليج العربي، ولكن الولايات المتحدة التي فقدت قدرتها على التحكم بمسار الأحداث في القارة الأمريكية بحيث برزت على الواجهة نظم حكم يسارية أعلنت خروجها على بيت الطاعة لأمريكا، بمعارضة لسياسات الحكومة الأمريكية لم تستطع واشنطن ردعها، فإن ما جرى في منطقة الشرق الأوسط والخليج العربي، كان انعكاسا للإخفاقات التي لحقت بالمشروع الأمريكي في كل من أفغانستان والعراق.
لم يعد كافيا أن تصدر بيانات استنكار شديدة اللهجة وبصورة علنية عن جامعة الدول العربية، ولا عن مجلس التعاون الخليجي للزيارة التي قام بها الرئيس الايراني محمود احمدي نجاد لجزيرة أبو موسى، فمثل هذه البيانات لا تعيد حقا ولا تخيف عدوا، ولو كان لها تأثير عملي على الأرض، لأعادت البيانات وقصائد الشعر العربي، فلسطين إلى الأمة، منذ أن كتب الشاعر المصري على محمود طه قصيدته التي غناها محمد عبد الوهاب، وطالب فيها بتجريد السيف العربي عن غمده بعد أن جاوز الظالمون المدى، كما أن وصف الزيارة بالعمل الاستفزازي لا يغير من سوء الحال شيئا، فضلا عن أن هذا أقل ما يقال فيها من الناحية الشكلية، ولأنه جزء مما تمليه اتفاقية تشكيل المجلس نفسه باتخاذ المواقف السياسية المشتركة للوقوف إلى جانب أي طرف منها يتعرض للتهديد الخارجي، أو أن تعبر عن تأييدها للجهود التي تبذلها دولة الامارات لاستعادة السيطرة على جزرها المحتلة، فأدراج الخارجية الإيرانية مكتظة بمثل هذه المذكرات أو البيانات أو التصريحات وربما تم اتلاف معظمها، كما أن الحديث عن تصعيد عسكري خليجي أو عربي يبدو في غير وقته حاليا، ما لم يتعزز بتحالف قوي تدعمه قوى دولية كبرى تجد في أمن منطقة الخليج العربي جزء من أمنها القومي ومصالحها الاستراتيجية.
إن تجربة الحرب التي شنتها الولايات المتحدة ومعها تحالف دولي واسع عام 1991 على العراق بسبب قضية الكويت، لن يتكرر أبدا ومهما كانت الظروف فذلك لم يكن وقوفا إلى جانب الكويتيين أو إلى جانب دول مجلس التعاون الخليجي كما تحاول أطراف تسويق هذه الفكرة، بقدر ما كان تعبيرا عن مصلحة استراتيجية أمريكية في إخراج العراق من معادلة التوازن الاستراتيجي العربي والإقليمي مع كل من إيران وإسرائيل، وإذا كانت الولايات المتحدة قوة دولية تعمل من أجل استعادة حقوق الدول الحليفة لها أو الصديقة، فإن قضية الجزر الثلاث العائدة للإمارات العربية يمكن أن تكون ساحة الاختبار الحقيقة للفرز بين النوايا الكامنة والمواقف المعلنة، لكن المراقبين يعتقدون أن الخيار العسكري من جانب الولايات المتحدة مجمد أو محذوف من القاموس، ليس لأن إيران قوية أكثر مما يجب، وإنما لأن أمريكا ضعيفة أكثر مما ينبغي، في عالم التوازنات الدولية القائمة حاليا، وخاصة بعد المأزقين العراقي والأفغاني، اللذين أظهرا أمريكا عارية تماما على مسرح الأحداث الدولية، كقوة منزوعة الإرادة وعاجزة عن دخول اختبارات القوة في منطقة الخليج العربي والشرق الأوسط.
أمريكا ليست أسطورة
لقد أقرت الإدارة الأمريكية ولأول مرة بعجزها عن خوض حربين في وقت واحد، بعد أن ظلت تطرح نفسها على أنها القوة القادرة على مواجهة كل ما يعترض طريقها من تحديات، مهما كانت كبيرة أو تعددت ساحاتها، فهي التي كانت تواجه حربا طاحنة مع الاتحاد السوفيتي والصين الشعبية بالنيابة في فيتنام وذلك حينما حشّد كل من السوفييت والصينيون كل ما في طاقتهم، لإلحاق الهزيمة بأمريكا في فيتنام والهند الصينية، ولكن الولايات المتحدة وعلى الرغم من حجم المواجهة التي خاضتها والهزيمة التي لحقت بها في ذلك الوقت، فإنها اعتبرت التجربة الفيتنامية درسا طور من القدرات التقنية لمواجهة الاتحاد السوفيتي نفسه، وخاصة أنها استدرجت إلى حرب استنزاف من جانب التحالف الشيوعي العالمي ثم ردت على ذلك باستدراج الاتحاد السوفيتي إلى أفغانستان فخرج منها مثقل الجراح حتى خسر نفسه في نهاية المطاف، ولهذه العوامل مجتمعة فلن يكون بوسع الولايات المتحدة الدخول في مواجهة لأنها مهزومة نفسيا في هذه البقعة من العالم بالذات والتي تمكنت من هزيمة المشروع الأمريكي من دون أن تحصل على دعم خارجي كما كانت فيتنام تحصل عليه.
ولعل في اختيار الرئيس الأمريكي باراك أوباما استراتيجية شرق آسيا بدلا من الشرق الأوسط، لأنها أقل تكلفة في ميزان المدفوعات السياسية، لاسيما وأن الانتخابات الرئاسية المقررة في نوفمبر المقبل، ما يعزز من نظرية المؤرخ البريطاني أرنولد توينبي عن تعاقب الحضارات، والتي افترض أنها تقوم استجابة لتحديات اجتماعية أو مادية، وعندما تصل إلى مرحلة العجز عن الاستجابة لتلك التحديات فإنها تدخل مرحلة الانهيار، بسبب افتقادها للقوة الأخلاقية والقيمية والروحية، فيحصل الافتراق وتموت القدرة على الإبداع، وكما الإنسان في مراحل نموه فإن أرنولد توينبي حدد خمس مراحل عمرية لكل حضارة أو امبراطورية عبر التاريخ، فمن الميلاد والنشأة، إلى الازدهار والتوسع السريع، إلى الجمود والعجز، ثم الانحلال والتدهور، وأخيرا السقوط والانهيار.
الولايات المتحدة التي صعدت كقوة دولية كبرى، مع أفول نجم امبراطوريات أوربية مسيحية مختلفة اللغات والمذاهب، وامتد وجودها على طول المعمورة وعرضها، وعلى الرغم من أن أمريكا تحاول تجديد نفسها بين آونة وأخرى، إلا أنها ليست استثناءً عن هذه القاعدة وهي (ليست اسطورة نهاية التاريخ) كما يقول توينبي، بل هي حلقة واحدة من حلقات تطور البشرية، وربما تعرف من خلال مفكريها ومراكز البحث هذه الحقيقة، ولأنها تعي حقائق التاريخ وسننه، فإنها تسعى لإضعاف القوى الدولية التي ترى فيها فرصة الصعود، كي تبقى قوية مقابل قوى ضعيفة وليست قوية بمواجهة أقوياء، وربما يعد مشروع الشرق الأوسط الكبير أو الجديد لإعادة انتاج سايكس بيكو، لتفعيل مقص أكثر حدة مما حصل للوطن العربي في القرن الماضي، ولأن الولايات المتحدة مشغولة بنفسها وحتى أمد غير منظور، فستبقى الثلاجة التي يتم فيها تبريد كل الملفات الساخنة، انتظارا لعودة أوباما إلى البيت الأبيض في ولاية ثانية والذي يرى المراقبون أن يده ستكون مطلقة أكثر مما فعل خلال الولاية الأولى، مما قد يساعد على تجديد شباب الامبراطورية الأمريكية الزاحفة نحو النهاية ولكن علامات الإحتظار لا يمكن للعين أن تخطأها، على العموم يمكن افتراض أن هذه سنة الانتخابات التي تصاب بها الإدارة الأمريكية بالشلل التام، هي التي تدفع بالقوى الدولية الكبرى، والدول الصغيرة لتحريك ملفات قد لا تستطيع التقرب من أرصفتها في ظروف أخرى.
استعينوا بالكتمان
إن وضعا دوليا مضطربا، نتيجة انكفاء الولايات المتحدة لمعالجة أزماتها الاقتصادية والعسكرية، وظهور دلالات على أن هناك قوى آسيوية مثل الصين والهند باتت تمتلك اقتصادات كبيرة جدا، وتريد دورا سياسيا دوليا مكافئا، وكذلك عودة الاتحاد السوفيتي السابق من دون نظرية شيوعية وباسم جديد، هو الذي وفر اغراء كافيا لدول إقليمية تسعى للتمدد مستغلة حقبة انعدام الوزن الذي تعيشه العلاقات الدولية، هذه الصور المضطربة في المشهد الدولي، باتت لا تسمح بالاطمئنان إلى جانب التعهدات المعلنة من جانب الحلفاء الخارجيين، فالاعتماد على النفس والاستعداد لأسوأ الاحتمالات وتعبئة الرأي العام ووضع موارد البلدان الخليجية في خدمة مشروع القوة المادية عسكريا واقتصاديا والقادرة على التصدي لكل الطوارئ هو وحده الذي يجنب المنطقة احتمالات الحرب، فلا يجوز تحشيد الفرق الموسيقية التي تنشد للسلام والمحبة، إذا كان الفريق الآخر يحشد الفرق العسكرية ويستعرض قوته الصاروخية، ويعزف المارشات الحربية، فالرد يجب أن يكون من جنس الفعل نفسه وحينما يشعر أي طرف أن الثمن الذي يمكن أن يدفعه لمغامرات غير مدروسة أكبر من المكاسب التي قد يحصل عليها، فإنه سيلجأ إلى خيار السلام عبر التفاوض، وإلا فأن أي مفاوضات بين أطراف غير متكافئة لا يمكن أن تؤدي إلى نتائج مرضية أبدا، ولعل في لغة الخطاب السياسي والدبلوماسي الخليجي السابق ورسائل الحوار، أسيء فهمها من جانب طهران، وهو ما أغرى إيران في الماضي لرفع صوتها عاليا على نحو مزق الآذان وخرق كل التقاليد السائدة في علاقات الدول مع بعضها، لذا يجب تصعيد قوة الخطاب السياسي العربي عموما والخليجي خصوصا والمستند على قوة مادية حقيقية، كي يبقى سيد الموقف مع تفعيل لحديث النبي الكريم صلى الله عليه وسلم، حينما قال استعينوا على قضاء حوائجكم بالكتمان، فهل يمكن الركون إلى الامكانات الذاتية لدول مجلس التعاون الخليجي في التعاطي مع ملف الجزر العربية الثلاث، وغيرها من الملفات التي تثير قلقا مشروعا وهاجسا في الأوساط العربية؟ اعتمادا على دعم عربي متعدد المحاور؟ أم أن الوقت ما زال مبكرا؟
إن مجرد تداعي دول مجلس التعاون الخليجي لعقد دورة استثنائية على مستوى وزراء الخارجية لدراسة ملف الجزر الثلاث، يدل على نضج ووعي متزايد في تعاطي الدبلوماسية الخليجية مع الملفات الساخنة والتي تحتاج إلى مستوى عال من الحكمة والحزم والاستعداد لكل الاحتمالات العلنية والسرية معا، وخاصة حينما يتصل الأمر بعلاقات دول المجلس مجتمعة مع إيران، أو علاقات أي عضو من أعضاء المجلس مع إيران بشكل خاص، لأن طهران ظلت تمنح نفسها امتيازا خاصا لم يعترف لها به الآخرون بل فوق طاقة الآخرين للإقرار به، في التصرف فوق القانون، واعتماد مبدأ التدرج في قضم الأراضي العربية وضمها والمطالبة بعد ذلك بأهداف جديدة.
إيران تحمل مشروعا إقليميا جموحا يتجاوز قدراتها وحقوقها التاريخية وخارطتها الجغرافية، وهذا يدعو العرب المتضررين من هذه السياسة، إلى البحث عن آليات عملية لمواجهة ذلك المشروع على مراحل يمكن أن تتداخل مع بعضها، ولكن المرحلة الأولى وهي التي تعمل على إيقافه عن حدوده التي وصل إليها، ولا يتم ذلك إلا من خلال زيادة مستوى التنسيق وتشديد الحصار الاقتصادي الدولي المفروض على إيران، وخاصة من قبل دولة الامارات العربية نفسها صاحبة المصلحة الحقيقية المباشرة بملف الجزر، لكن هذا يستدعي تضافر جهود الأطراف مجتمعة لرسم الصفحات والمحاور التي تضعف الطرف المقابل سياسيا واقتصاديا وعسكريا، ليس بالضرورة اللجوء إلى الأساليب التعبوية العسكرية، أو ما عند الجيش من امكانات، وإن كان بالإمكان عدم إغفال الاستراتيجيات العسكرية وسحبها على المعركة السياسية والاقتصادية والتجارية، بما يؤّمن كسب المعركة بأقل الخسائر، أما المرحلة الثانية فتتلخص في إعادة القوة الإيرانية إلى داخل حدودها القديمة، وإذا كنا قد اعتبرنا أن المرحلة الأولى ليست عسكرية، فإن المرحلة الثانية متشعبة وواسعة النطاق، فمن يخطط لقلع شجرة ضارة، ليس عليه أن يأتي بجرافة ويقتلعها من مكانها، مما قد يؤثر على المناطق المجاورة، بل تبدأ الخطة أولا بقطع المياه عنها ثم الانتقال إلى تقطيع فروعها وأغصانها، ومنعها من القدرة على انبات فروع جديدة، وهذه الخطة لست ذات طابع أمني فقط على أهمية الدور الأمني، ولكن المطلوب تحرك متعدد المحاور بحيث تجد إيران نفسها كيانا منبوذا على المستويين الرسمي والشعبي، أما المرحلة الأخيرة فتتلخص في جعل إيران في حالة للدفاع عن النفس مقابل ما تعده أخطارا محدقة بها داخليا وخارجيا من غير أن نمكنها من امتلاك قوة اضافية.
فهل استطاع اجتماع الدوحة إيصال رسالته للزعامة الإيرانية؟ وهل تمكنت تلك الزعامة من فك شفرتها ورموزها بصورة صحيحة؟
الفاو وكسر الإرادات
تاريخ العلاقات بين إيران والوطن العربي منذ بداية القرن العشرين وحتى اليوم، بل منذ نشوء منظومة الدولة في بلاد فارس وجيرانها العرب، استندت على مبدأ فارسي راسخ، وهو أن إيران وبصرف النظر عن أسماء الدول التي نشأت فوق أرضها، كانت تعتمد على قانون القوة لفرض وقائع جديدة على الأرض كلما سنحت لها الفرصة لاستخدام القوة، إما لنمو قوة فائضة عن حاجتها الداخلية فيتم توظيفها للتوسع، وإما لضعف في الجانب الآخر من المعادلة وعلى الدوام كان يمثله العرب، ولكن إيران سرعان ما تنكفئ إلى الوراء حينما لا تجد القوة الذاتية الكافية لفرض وجهات نظرها، فتلجأ إلى الخديعة أو إضاعة الوقت في الأجوبة أو التفسيرات الأكثر غموضا من التساؤلات المطروحة عليها، فهي والحال هذه لا يمكن أن يمر بخاطرها أن تتخلى عن شيء حصلت عليه بأية وسيلة متاحة، على الرغم من أن إيران لم تتمكن من احتلال أرض عربية بالقوة إلا ما حصل في مدينة الفاو العراقية في فبراير/ شباط عام 1986 والتي قال هاشمي رفسنجاني رئيس مجلس الشورى وممثل الخميني في مجلس الدفاع الأعلى يوم احتلال الفاو، إن إيران أصبحت جارا للكويت ودول الخليج وعليها أن تأخذ ذلك بنظر الاعتبار مما يؤكد وحدة منظومة الأمن القومي العربي، أما علي خامنئي الذي كان رئيسا للجمهورية حينذاك فقد قال إن احتلال الفاو تم بموجب خطة تم العثور عليها في أدراج رئاسة الأركان العامة من أيام الشاه، مما يعزز نوايا التمدد الإيراني على العراق بصرف النظر عن طبيعة حكام إيران، ولكن الفاو نفسها كانت السبب الرئيس لكسر العمود الفقري لإيران، حينما استردها العراقيون في17 أبريل/ نيسان 1988، في معركة ربما هي الأولى التي يسترد فبها العرب أرضا محتلة من دون أن تشوب التحرير شائبة تقديم التنازلات السياسية للعدو، وأدى انتصار العراق في معركة تحرير الفاو، إلى عودة ميزان القوى لصالح العراق مرة أخرى، وأدى انتصار الفاو بالنتيجة إلى تجرع الخميني لكأس السم، حينما وافق على قرار مجلس الأمن المرقم 598 لعام 1987 بعد نحو من ثلاثة عشر شهرا من صدوره، ومع ذلك فإن احتلال أرض الغير من دون تضحيات، لا يعني الخروج منها من دون تضحيات، أو من قبل الطرف الذي تعرضت أرضه للاحتلال، وإذا كانت المنطقة لا تحتمل المزيد من الحروب الساخنة، وإذا كان العالم لا يحتمل التفريط بإمدادات النفط منها، فإن امتلاك أسباب القوة الذاتية هو وحده الضامن للأمن اٌلإقليمي والسلام العالمي، وليس من مصلحة العالم أن يشاهد إيران وهي تعبث بأمن المنطقة ويغض الطرف عنها، فالعالم إذا كان يرى في منطقة الخزان النفطي الرئيس عاملا ديمومة لماكنة الاقتصاد العالمي، فعليه أن ينهض بدوره بردع إيران عن مواصلة هذا النوع الخطر من التهديد، والأهم من كل هذا أن تتصرف دول مجلس التعاون الخليجي على أساس ما تمتلكه من قوة موحدة وهائلة تستطيع بواسطتها تركيع إيران ومن يقف مع إيران، من قوى تتحين الفرص للانقضاض على منطقة الثروة التي لم يكن للإنسان دور في وجودها، وتتطلب أقل قدر من الرساميل ولا يمكن أن تتعرض للخسارة أو الكساد.
ولكن كيف تعاملت إيران مع نتائج اجتماع الدوحة؟ قالت طهرن إن سيادتها على الجزر الثلاث غير قابلة للتفاوض، ولكنها دعت الى اجراء محادثات ثنائية مع الامارات لإزالة أي سوء فهم، إذن فالاحتلال هو سوء فهم؟ وقال وزير الخارجية الإيراني علي اكبر صالحي إن بلاده تأمل ان تتصرف الاطراف الاخرى بحكمة وأناة بشأن سوء الفهم الذي يطرأ بين الحين والاخر، والا فقد تبلغ الامور حدا من التعقيد يصعب معه حلها، واضاف نحن نريد أفضل علاقة ممكنة مع الامارات حيث ان علاقاتنا التجارية والاقتصادية مهمة، فأي حكمة أكبر من صبر على احتلال يزيد على أربعة عقود؟
من يتفحص هذه التناقضات في تصريحات وزير الخارجية الإيراني لا يحتاج إلى جهد كبير، ليكتشف أن إيران تريد من دولة الإمارات العربية الاستسلام لنزعة التوسع الإيرانية والتنازل عن جزرها الثلاث، فهو يصف ما حدث بسوء الفهم، ويدعو إلى تمتين علاقات بلاده بالإمارات العربية وخاصة في مجال العلاقات التجارية وهنا تكمن عقدة إيران في زمن الحصار، أما قائد الجيش الإيراني الجنرال عطا صالحي، فقد رفع من حدة لهجته حينما قال إن بلاده لن تسمح لأي جهة بالتطاول على وحدة الأراضي الإيرانية، وحتى في ردود الفعل الإيرانية التي لم تتخط حدود إزالة سوء الفهم، كان المسؤولون الإيرانيون يهددون بأن الأوضاع قد تصل حدا لا يمكن معه اصلاحها، فهل يعد احتلال أرض الغير مجرد سوء فهم؟ ألا يدل ذلك على استهانة خطيرة بقواعد القانون الدولي؟
من أجل إعادة إيران إلى صوابها، يمكن أن نفترض أنها بحاجة إلى صدمة قوية على رأسها توقظها من حلم حزين.
نزار السامرائي
لعل الدورة الاستثنائية التاسعة والثلاثين للمجلس الوزاري لمجلس التعاون الخليجي، والتي أنهت اجتماعات اليوم الواحد في الدوحة يوم الثلاثاء الماضي، قد اتخذت قرارات مهمة وعملية غير ما تم الإعلان عنه في البيان الختامي أو في تصريحات الوزراء الذين شاركوا فيها، وهذا أمر منطقي بل ومطلوب في ظل ظروف إقليمية ودولية قلقة، ناتجة عن اختلال موازين القوى المتصارعة على توسيع مصالحها ومن ثم تكريسها في منطقة حافظت على أهميتها الاستراتيجية منذ بدء عصر الفتوحات الاستعمارية، حتى بدت إيران في ظل هذا الوضع المضطرب، وكأنها القوة الوحيدة القادرة على فرض وجهات نظرها على دول المنطقة، إما بقوتها المستعرضة بالمناورات العسكرية الدورية التي تجريها، أو بقوة خلاياها النائمة أو أذرعها المنتشرة في بعض الدول التي غفلت عن مواجهة مثل هذه الأخطار، بحيث باتت تلك الخلايا بانتظار إشارة التحرك من طهران لتعبث بأمن دول الخليج العربي، بعد أن أعطى إيران وضعها الخاص كشريك استراتيجي للولايات المتحدة، في العراق بعد عام 2003 شعورا طاغيا بالتفوق الإقليمي على دول المنطقة مجتمعة، وعلى الدول التي لها مصالح استراتيجية فيها.
إن الحديث عن الحوار والاحتكام إلى منطق القانون الدولي، لا يمكن أن يحصل بين طرفين غير متكافئين أو على الأقل متقاربين في القوة العسكرية والاقتصادية، لأن أي خلل في موازين القوى لصالح أي من الجانبين، سيفسره الجانب القوي على أنه فرصة لانتزاع تنازلات سياسية وجغرافية من الطرف الضعيف، وربما يأخذ هذا الحكم بعدا أكثر أهمية إذا كان الطرف الآخر هو إيران بالذات، المعروفة بأنها لا تحترم تعهداتها المثبتة بالاتفاقيات والمعاهدات التي تبرمها مع الدول الأخرى، وربما تعد ذلك قمة الشطارة والمهارة السياسية والدبلوماسية، ولهذا يمكن النظر إلى تصريحات وزير خارجية دولة الإمارات العربية التي حث فيها إيران على بدء المفاوضات بشأن الجزر العربية الثلاث، أو اللجوء إلى محكمة العدل الدولية، على أنها تعبر عن أمنيات ونوايا خير لن تجد طريقها إلى التنفيذ، لأن إيران تمسك بالأرض أي تحتل الجزر الثلاث، ومن يمسك بالأرض لا يخسر كثيرا من مرور الوقت والذي سيكرس حقائق جديدة، أما الطرف الآخر فإنه وإن كان الحق معه وبصرف النظر عن درجة ذلك، إلا أن الأوراق التي بيده لا تعطيه هامشا من المناورة التي يحشر خصمه في زاوية حرجة تدفعه لتقديم تنازلات غير مضطر لها، ثم أن إيران ومن خلال تصريحات كبار مسؤوليها ليست على استعداد لمجرد التفكير بالبحث في قضية الجزر، التي تعتبرها ملفا مغلقا وأرضا إيرانية وستبقى كذلك، على حد قول علي أكبر ولايتي وزير الخارجية الإيرانية الأسبق والمستشار الأعلى للشؤون الخارجية لعلي خامنئي مرشد الثورة الإسلامية الإيرانية، أما محكمة العدل الدول فلا يسمح لها قانونها بالنظر بأي قضية ما لم يتفق طرفا الأزمة على إحالتها إلى المحكمة، على ذلك فينبغي البحث عن مداخل جديدة للتعاطي مع هذا الملف، غير افتراض حسن النية عند إيران، فما جدوى الحديث عن الالتزام بالمطالبة بالحقوق السيادية لدولة الإمارات العربية من خلال الخيار السلمي وضمن أطر القانون الدولي، إذا كان الطرف الآخر يستهين بهذه المبادئ وينظر إليها على أنها عربة الضعفاء للوصول إلى أهدافهم من دون عناء أو تضحية؟
مفاوضات الأقوياء
إن الجلوس على مائدة المفاوضات، سيبقى ضربا من الخيال ما لم يشعر طرفا المعادلة، أن هناك قوة عسكرية تقف خارج قاعة الحوار على أهبة الاستعداد لتعديل الاختلال في موازين القوى، وربما كان من العبث المراهنة على الدعم الخارجي المفترض من جانب قوى دولية كبرى وخاصة الولايات المتحدة والتحالف الغربي، لمعالجة وضع في منطقة كانت تنظر إليها باعتبارها ساحة صراع ساخنة مع قوى دولية منافسة، وكما أن الولايات المتحدة نظرت إلى القارة الأمريكية على أنها الحديقة الخلفية لها، كما جاء في مبدأ الرئيس الأمريكي جيمس مونرو الذي حكم قبل نحو قرنين، والذي أكد في رسالة وجهها إلى الكونغرس في 2 ديسمبر 1823، بأن نصف الكرة الغربي هو منطقة نفوذ لبلاده لا يحق لأية دولة أوربية منافستها فيه، فإن واشنطن اعتمدت على مبدأ ملء الفراغ الذي جاء به الرئيس دوايت آيزنهاور الذي حكم في خمسينات القرن الماضي، لبسط هيمنتها على الوطن العربي وخاصة منطقة الخليج العربي، ولكن الولايات المتحدة التي فقدت قدرتها على التحكم بمسار الأحداث في القارة الأمريكية بحيث برزت على الواجهة نظم حكم يسارية أعلنت خروجها على بيت الطاعة لأمريكا، بمعارضة لسياسات الحكومة الأمريكية لم تستطع واشنطن ردعها، فإن ما جرى في منطقة الشرق الأوسط والخليج العربي، كان انعكاسا للإخفاقات التي لحقت بالمشروع الأمريكي في كل من أفغانستان والعراق.
لم يعد كافيا أن تصدر بيانات استنكار شديدة اللهجة وبصورة علنية عن جامعة الدول العربية، ولا عن مجلس التعاون الخليجي للزيارة التي قام بها الرئيس الايراني محمود احمدي نجاد لجزيرة أبو موسى، فمثل هذه البيانات لا تعيد حقا ولا تخيف عدوا، ولو كان لها تأثير عملي على الأرض، لأعادت البيانات وقصائد الشعر العربي، فلسطين إلى الأمة، منذ أن كتب الشاعر المصري على محمود طه قصيدته التي غناها محمد عبد الوهاب، وطالب فيها بتجريد السيف العربي عن غمده بعد أن جاوز الظالمون المدى، كما أن وصف الزيارة بالعمل الاستفزازي لا يغير من سوء الحال شيئا، فضلا عن أن هذا أقل ما يقال فيها من الناحية الشكلية، ولأنه جزء مما تمليه اتفاقية تشكيل المجلس نفسه باتخاذ المواقف السياسية المشتركة للوقوف إلى جانب أي طرف منها يتعرض للتهديد الخارجي، أو أن تعبر عن تأييدها للجهود التي تبذلها دولة الامارات لاستعادة السيطرة على جزرها المحتلة، فأدراج الخارجية الإيرانية مكتظة بمثل هذه المذكرات أو البيانات أو التصريحات وربما تم اتلاف معظمها، كما أن الحديث عن تصعيد عسكري خليجي أو عربي يبدو في غير وقته حاليا، ما لم يتعزز بتحالف قوي تدعمه قوى دولية كبرى تجد في أمن منطقة الخليج العربي جزء من أمنها القومي ومصالحها الاستراتيجية.
إن تجربة الحرب التي شنتها الولايات المتحدة ومعها تحالف دولي واسع عام 1991 على العراق بسبب قضية الكويت، لن يتكرر أبدا ومهما كانت الظروف فذلك لم يكن وقوفا إلى جانب الكويتيين أو إلى جانب دول مجلس التعاون الخليجي كما تحاول أطراف تسويق هذه الفكرة، بقدر ما كان تعبيرا عن مصلحة استراتيجية أمريكية في إخراج العراق من معادلة التوازن الاستراتيجي العربي والإقليمي مع كل من إيران وإسرائيل، وإذا كانت الولايات المتحدة قوة دولية تعمل من أجل استعادة حقوق الدول الحليفة لها أو الصديقة، فإن قضية الجزر الثلاث العائدة للإمارات العربية يمكن أن تكون ساحة الاختبار الحقيقة للفرز بين النوايا الكامنة والمواقف المعلنة، لكن المراقبين يعتقدون أن الخيار العسكري من جانب الولايات المتحدة مجمد أو محذوف من القاموس، ليس لأن إيران قوية أكثر مما يجب، وإنما لأن أمريكا ضعيفة أكثر مما ينبغي، في عالم التوازنات الدولية القائمة حاليا، وخاصة بعد المأزقين العراقي والأفغاني، اللذين أظهرا أمريكا عارية تماما على مسرح الأحداث الدولية، كقوة منزوعة الإرادة وعاجزة عن دخول اختبارات القوة في منطقة الخليج العربي والشرق الأوسط.
أمريكا ليست أسطورة
لقد أقرت الإدارة الأمريكية ولأول مرة بعجزها عن خوض حربين في وقت واحد، بعد أن ظلت تطرح نفسها على أنها القوة القادرة على مواجهة كل ما يعترض طريقها من تحديات، مهما كانت كبيرة أو تعددت ساحاتها، فهي التي كانت تواجه حربا طاحنة مع الاتحاد السوفيتي والصين الشعبية بالنيابة في فيتنام وذلك حينما حشّد كل من السوفييت والصينيون كل ما في طاقتهم، لإلحاق الهزيمة بأمريكا في فيتنام والهند الصينية، ولكن الولايات المتحدة وعلى الرغم من حجم المواجهة التي خاضتها والهزيمة التي لحقت بها في ذلك الوقت، فإنها اعتبرت التجربة الفيتنامية درسا طور من القدرات التقنية لمواجهة الاتحاد السوفيتي نفسه، وخاصة أنها استدرجت إلى حرب استنزاف من جانب التحالف الشيوعي العالمي ثم ردت على ذلك باستدراج الاتحاد السوفيتي إلى أفغانستان فخرج منها مثقل الجراح حتى خسر نفسه في نهاية المطاف، ولهذه العوامل مجتمعة فلن يكون بوسع الولايات المتحدة الدخول في مواجهة لأنها مهزومة نفسيا في هذه البقعة من العالم بالذات والتي تمكنت من هزيمة المشروع الأمريكي من دون أن تحصل على دعم خارجي كما كانت فيتنام تحصل عليه.
ولعل في اختيار الرئيس الأمريكي باراك أوباما استراتيجية شرق آسيا بدلا من الشرق الأوسط، لأنها أقل تكلفة في ميزان المدفوعات السياسية، لاسيما وأن الانتخابات الرئاسية المقررة في نوفمبر المقبل، ما يعزز من نظرية المؤرخ البريطاني أرنولد توينبي عن تعاقب الحضارات، والتي افترض أنها تقوم استجابة لتحديات اجتماعية أو مادية، وعندما تصل إلى مرحلة العجز عن الاستجابة لتلك التحديات فإنها تدخل مرحلة الانهيار، بسبب افتقادها للقوة الأخلاقية والقيمية والروحية، فيحصل الافتراق وتموت القدرة على الإبداع، وكما الإنسان في مراحل نموه فإن أرنولد توينبي حدد خمس مراحل عمرية لكل حضارة أو امبراطورية عبر التاريخ، فمن الميلاد والنشأة، إلى الازدهار والتوسع السريع، إلى الجمود والعجز، ثم الانحلال والتدهور، وأخيرا السقوط والانهيار.
الولايات المتحدة التي صعدت كقوة دولية كبرى، مع أفول نجم امبراطوريات أوربية مسيحية مختلفة اللغات والمذاهب، وامتد وجودها على طول المعمورة وعرضها، وعلى الرغم من أن أمريكا تحاول تجديد نفسها بين آونة وأخرى، إلا أنها ليست استثناءً عن هذه القاعدة وهي (ليست اسطورة نهاية التاريخ) كما يقول توينبي، بل هي حلقة واحدة من حلقات تطور البشرية، وربما تعرف من خلال مفكريها ومراكز البحث هذه الحقيقة، ولأنها تعي حقائق التاريخ وسننه، فإنها تسعى لإضعاف القوى الدولية التي ترى فيها فرصة الصعود، كي تبقى قوية مقابل قوى ضعيفة وليست قوية بمواجهة أقوياء، وربما يعد مشروع الشرق الأوسط الكبير أو الجديد لإعادة انتاج سايكس بيكو، لتفعيل مقص أكثر حدة مما حصل للوطن العربي في القرن الماضي، ولأن الولايات المتحدة مشغولة بنفسها وحتى أمد غير منظور، فستبقى الثلاجة التي يتم فيها تبريد كل الملفات الساخنة، انتظارا لعودة أوباما إلى البيت الأبيض في ولاية ثانية والذي يرى المراقبون أن يده ستكون مطلقة أكثر مما فعل خلال الولاية الأولى، مما قد يساعد على تجديد شباب الامبراطورية الأمريكية الزاحفة نحو النهاية ولكن علامات الإحتظار لا يمكن للعين أن تخطأها، على العموم يمكن افتراض أن هذه سنة الانتخابات التي تصاب بها الإدارة الأمريكية بالشلل التام، هي التي تدفع بالقوى الدولية الكبرى، والدول الصغيرة لتحريك ملفات قد لا تستطيع التقرب من أرصفتها في ظروف أخرى.
استعينوا بالكتمان
إن وضعا دوليا مضطربا، نتيجة انكفاء الولايات المتحدة لمعالجة أزماتها الاقتصادية والعسكرية، وظهور دلالات على أن هناك قوى آسيوية مثل الصين والهند باتت تمتلك اقتصادات كبيرة جدا، وتريد دورا سياسيا دوليا مكافئا، وكذلك عودة الاتحاد السوفيتي السابق من دون نظرية شيوعية وباسم جديد، هو الذي وفر اغراء كافيا لدول إقليمية تسعى للتمدد مستغلة حقبة انعدام الوزن الذي تعيشه العلاقات الدولية، هذه الصور المضطربة في المشهد الدولي، باتت لا تسمح بالاطمئنان إلى جانب التعهدات المعلنة من جانب الحلفاء الخارجيين، فالاعتماد على النفس والاستعداد لأسوأ الاحتمالات وتعبئة الرأي العام ووضع موارد البلدان الخليجية في خدمة مشروع القوة المادية عسكريا واقتصاديا والقادرة على التصدي لكل الطوارئ هو وحده الذي يجنب المنطقة احتمالات الحرب، فلا يجوز تحشيد الفرق الموسيقية التي تنشد للسلام والمحبة، إذا كان الفريق الآخر يحشد الفرق العسكرية ويستعرض قوته الصاروخية، ويعزف المارشات الحربية، فالرد يجب أن يكون من جنس الفعل نفسه وحينما يشعر أي طرف أن الثمن الذي يمكن أن يدفعه لمغامرات غير مدروسة أكبر من المكاسب التي قد يحصل عليها، فإنه سيلجأ إلى خيار السلام عبر التفاوض، وإلا فأن أي مفاوضات بين أطراف غير متكافئة لا يمكن أن تؤدي إلى نتائج مرضية أبدا، ولعل في لغة الخطاب السياسي والدبلوماسي الخليجي السابق ورسائل الحوار، أسيء فهمها من جانب طهران، وهو ما أغرى إيران في الماضي لرفع صوتها عاليا على نحو مزق الآذان وخرق كل التقاليد السائدة في علاقات الدول مع بعضها، لذا يجب تصعيد قوة الخطاب السياسي العربي عموما والخليجي خصوصا والمستند على قوة مادية حقيقية، كي يبقى سيد الموقف مع تفعيل لحديث النبي الكريم صلى الله عليه وسلم، حينما قال استعينوا على قضاء حوائجكم بالكتمان، فهل يمكن الركون إلى الامكانات الذاتية لدول مجلس التعاون الخليجي في التعاطي مع ملف الجزر العربية الثلاث، وغيرها من الملفات التي تثير قلقا مشروعا وهاجسا في الأوساط العربية؟ اعتمادا على دعم عربي متعدد المحاور؟ أم أن الوقت ما زال مبكرا؟
إن مجرد تداعي دول مجلس التعاون الخليجي لعقد دورة استثنائية على مستوى وزراء الخارجية لدراسة ملف الجزر الثلاث، يدل على نضج ووعي متزايد في تعاطي الدبلوماسية الخليجية مع الملفات الساخنة والتي تحتاج إلى مستوى عال من الحكمة والحزم والاستعداد لكل الاحتمالات العلنية والسرية معا، وخاصة حينما يتصل الأمر بعلاقات دول المجلس مجتمعة مع إيران، أو علاقات أي عضو من أعضاء المجلس مع إيران بشكل خاص، لأن طهران ظلت تمنح نفسها امتيازا خاصا لم يعترف لها به الآخرون بل فوق طاقة الآخرين للإقرار به، في التصرف فوق القانون، واعتماد مبدأ التدرج في قضم الأراضي العربية وضمها والمطالبة بعد ذلك بأهداف جديدة.
إيران تحمل مشروعا إقليميا جموحا يتجاوز قدراتها وحقوقها التاريخية وخارطتها الجغرافية، وهذا يدعو العرب المتضررين من هذه السياسة، إلى البحث عن آليات عملية لمواجهة ذلك المشروع على مراحل يمكن أن تتداخل مع بعضها، ولكن المرحلة الأولى وهي التي تعمل على إيقافه عن حدوده التي وصل إليها، ولا يتم ذلك إلا من خلال زيادة مستوى التنسيق وتشديد الحصار الاقتصادي الدولي المفروض على إيران، وخاصة من قبل دولة الامارات العربية نفسها صاحبة المصلحة الحقيقية المباشرة بملف الجزر، لكن هذا يستدعي تضافر جهود الأطراف مجتمعة لرسم الصفحات والمحاور التي تضعف الطرف المقابل سياسيا واقتصاديا وعسكريا، ليس بالضرورة اللجوء إلى الأساليب التعبوية العسكرية، أو ما عند الجيش من امكانات، وإن كان بالإمكان عدم إغفال الاستراتيجيات العسكرية وسحبها على المعركة السياسية والاقتصادية والتجارية، بما يؤّمن كسب المعركة بأقل الخسائر، أما المرحلة الثانية فتتلخص في إعادة القوة الإيرانية إلى داخل حدودها القديمة، وإذا كنا قد اعتبرنا أن المرحلة الأولى ليست عسكرية، فإن المرحلة الثانية متشعبة وواسعة النطاق، فمن يخطط لقلع شجرة ضارة، ليس عليه أن يأتي بجرافة ويقتلعها من مكانها، مما قد يؤثر على المناطق المجاورة، بل تبدأ الخطة أولا بقطع المياه عنها ثم الانتقال إلى تقطيع فروعها وأغصانها، ومنعها من القدرة على انبات فروع جديدة، وهذه الخطة لست ذات طابع أمني فقط على أهمية الدور الأمني، ولكن المطلوب تحرك متعدد المحاور بحيث تجد إيران نفسها كيانا منبوذا على المستويين الرسمي والشعبي، أما المرحلة الأخيرة فتتلخص في جعل إيران في حالة للدفاع عن النفس مقابل ما تعده أخطارا محدقة بها داخليا وخارجيا من غير أن نمكنها من امتلاك قوة اضافية.
فهل استطاع اجتماع الدوحة إيصال رسالته للزعامة الإيرانية؟ وهل تمكنت تلك الزعامة من فك شفرتها ورموزها بصورة صحيحة؟
الفاو وكسر الإرادات
تاريخ العلاقات بين إيران والوطن العربي منذ بداية القرن العشرين وحتى اليوم، بل منذ نشوء منظومة الدولة في بلاد فارس وجيرانها العرب، استندت على مبدأ فارسي راسخ، وهو أن إيران وبصرف النظر عن أسماء الدول التي نشأت فوق أرضها، كانت تعتمد على قانون القوة لفرض وقائع جديدة على الأرض كلما سنحت لها الفرصة لاستخدام القوة، إما لنمو قوة فائضة عن حاجتها الداخلية فيتم توظيفها للتوسع، وإما لضعف في الجانب الآخر من المعادلة وعلى الدوام كان يمثله العرب، ولكن إيران سرعان ما تنكفئ إلى الوراء حينما لا تجد القوة الذاتية الكافية لفرض وجهات نظرها، فتلجأ إلى الخديعة أو إضاعة الوقت في الأجوبة أو التفسيرات الأكثر غموضا من التساؤلات المطروحة عليها، فهي والحال هذه لا يمكن أن يمر بخاطرها أن تتخلى عن شيء حصلت عليه بأية وسيلة متاحة، على الرغم من أن إيران لم تتمكن من احتلال أرض عربية بالقوة إلا ما حصل في مدينة الفاو العراقية في فبراير/ شباط عام 1986 والتي قال هاشمي رفسنجاني رئيس مجلس الشورى وممثل الخميني في مجلس الدفاع الأعلى يوم احتلال الفاو، إن إيران أصبحت جارا للكويت ودول الخليج وعليها أن تأخذ ذلك بنظر الاعتبار مما يؤكد وحدة منظومة الأمن القومي العربي، أما علي خامنئي الذي كان رئيسا للجمهورية حينذاك فقد قال إن احتلال الفاو تم بموجب خطة تم العثور عليها في أدراج رئاسة الأركان العامة من أيام الشاه، مما يعزز نوايا التمدد الإيراني على العراق بصرف النظر عن طبيعة حكام إيران، ولكن الفاو نفسها كانت السبب الرئيس لكسر العمود الفقري لإيران، حينما استردها العراقيون في17 أبريل/ نيسان 1988، في معركة ربما هي الأولى التي يسترد فبها العرب أرضا محتلة من دون أن تشوب التحرير شائبة تقديم التنازلات السياسية للعدو، وأدى انتصار العراق في معركة تحرير الفاو، إلى عودة ميزان القوى لصالح العراق مرة أخرى، وأدى انتصار الفاو بالنتيجة إلى تجرع الخميني لكأس السم، حينما وافق على قرار مجلس الأمن المرقم 598 لعام 1987 بعد نحو من ثلاثة عشر شهرا من صدوره، ومع ذلك فإن احتلال أرض الغير من دون تضحيات، لا يعني الخروج منها من دون تضحيات، أو من قبل الطرف الذي تعرضت أرضه للاحتلال، وإذا كانت المنطقة لا تحتمل المزيد من الحروب الساخنة، وإذا كان العالم لا يحتمل التفريط بإمدادات النفط منها، فإن امتلاك أسباب القوة الذاتية هو وحده الضامن للأمن اٌلإقليمي والسلام العالمي، وليس من مصلحة العالم أن يشاهد إيران وهي تعبث بأمن المنطقة ويغض الطرف عنها، فالعالم إذا كان يرى في منطقة الخزان النفطي الرئيس عاملا ديمومة لماكنة الاقتصاد العالمي، فعليه أن ينهض بدوره بردع إيران عن مواصلة هذا النوع الخطر من التهديد، والأهم من كل هذا أن تتصرف دول مجلس التعاون الخليجي على أساس ما تمتلكه من قوة موحدة وهائلة تستطيع بواسطتها تركيع إيران ومن يقف مع إيران، من قوى تتحين الفرص للانقضاض على منطقة الثروة التي لم يكن للإنسان دور في وجودها، وتتطلب أقل قدر من الرساميل ولا يمكن أن تتعرض للخسارة أو الكساد.
ولكن كيف تعاملت إيران مع نتائج اجتماع الدوحة؟ قالت طهرن إن سيادتها على الجزر الثلاث غير قابلة للتفاوض، ولكنها دعت الى اجراء محادثات ثنائية مع الامارات لإزالة أي سوء فهم، إذن فالاحتلال هو سوء فهم؟ وقال وزير الخارجية الإيراني علي اكبر صالحي إن بلاده تأمل ان تتصرف الاطراف الاخرى بحكمة وأناة بشأن سوء الفهم الذي يطرأ بين الحين والاخر، والا فقد تبلغ الامور حدا من التعقيد يصعب معه حلها، واضاف نحن نريد أفضل علاقة ممكنة مع الامارات حيث ان علاقاتنا التجارية والاقتصادية مهمة، فأي حكمة أكبر من صبر على احتلال يزيد على أربعة عقود؟
من يتفحص هذه التناقضات في تصريحات وزير الخارجية الإيراني لا يحتاج إلى جهد كبير، ليكتشف أن إيران تريد من دولة الإمارات العربية الاستسلام لنزعة التوسع الإيرانية والتنازل عن جزرها الثلاث، فهو يصف ما حدث بسوء الفهم، ويدعو إلى تمتين علاقات بلاده بالإمارات العربية وخاصة في مجال العلاقات التجارية وهنا تكمن عقدة إيران في زمن الحصار، أما قائد الجيش الإيراني الجنرال عطا صالحي، فقد رفع من حدة لهجته حينما قال إن بلاده لن تسمح لأي جهة بالتطاول على وحدة الأراضي الإيرانية، وحتى في ردود الفعل الإيرانية التي لم تتخط حدود إزالة سوء الفهم، كان المسؤولون الإيرانيون يهددون بأن الأوضاع قد تصل حدا لا يمكن معه اصلاحها، فهل يعد احتلال أرض الغير مجرد سوء فهم؟ ألا يدل ذلك على استهانة خطيرة بقواعد القانون الدولي؟
من أجل إعادة إيران إلى صوابها، يمكن أن نفترض أنها بحاجة إلى صدمة قوية على رأسها توقظها من حلم حزين.
نزار السامرائي