من طرف عامريه السبت نوفمبر 05, 2011 8:23 pmبقلم - د. فاطمة الصايغ
بينما يعج العالم العربي اليوم بالكثير من الأحداث والمواقف الصعبة ويكثر الحديث هنا وهناك عن الانفصالات السياسية المحتملة أو المتوقعة وتشيع حالة من عدم الاستقرار السياسي في الكثير من المناطق وترتفع الأصوات في كثير من بقاع العالم العربي مطالبة بالخبز والغذاء والدواء حتى قبل الإصلاح السياسي والتمكين وغيرها من المفردات، تقف تجربة الإمارات شاهدا على عمق التجربة الشعبية وتوفر الإرادة السياسية واستقرار الأوضاع بشكل عام.
وفي واقع الأمر فإنه ليس هناك تجربة سياسية وتنموية مثالية في العالم بأسره يمكن أن يقتدي بها المرء ويطبقها في بلاده، ولا نزعم هنا أن تجربة الإمارات هي تجربة مثالية يمكن تصديرها إلى مناطق أخرى من العالم، فلكل تجربة مثالبها ومحاسنها تماما كما أن لكل منطقة ظروفها السياسية والاجتماعية والاقتصادية، ولكن نقول إن تجربة الإمارات اشتقت عناصر نجاحها وبقائها من الظروف المجتمعية المتوافرة آنذاك، تماما كما تستمد اليوم عناصر ديمومتها وبقائها من الإرادة السياسية والشعبية التي لولاها ما استمرت حتى اليوم. فما هي اللحظات التاريخية التي ساهمت في صنع تجربة الإمارات وكيف تعامل معها الرعيل الأول من القادة والشعب؟ وما هي العناصر التي تساهم اليوم في ديمومة تجربة الإمارات وبقائها متألقة في منطقة تضج بالمتغيرات السياسية وعدم الاستقرار والتقلبات والتهديدات الأمنية؟
في ذاكرة الإمارات لحظات كثيرة من الانجاز والزهو بما حققته أيدي أهل الإمارات ورعيلها الأول من المؤسسين وبناة الوطن، لحظات تحمل معها عبق التاريخ وأريجه كما تحمل معها زهو تلك اللحظات السعيدة وألقها الذي يمدها بطاقة متجددة تتميز بها عن الآخرين. لحظات الإمارات في التاريخ كثيرة ومحطاتها متعددة ومن حق الإمارات اليوم أن تفخر بها وأن تسجلها لأنها الأرشيف الذي سوف يحفظ تلك اللحظات للأجيال القادمة زادا وزوادة.
بدأت لحظة الإمارات في التاريخ قبل أكثر من أربعة عقود. بالتحديد في فبراير 1968. فقد حمل لنا شهر فبراير، بالإضافة إلى نسماته الشتوية الباردة ذكرى تاريخية عزيزة على الإمارات وأهلها، لحظة أصبحت مفصلا مهما في تاريخنا، إنه اجتماع السميح. هذه الذكرى كانت السطر الأول في كتاب الاتحاد، صفحة مشرقة لأنها تحمل أهمية كبيرة في تاريخنا لا يقل أهمية عن لحظة توقيع اتفاقية الجلاء وإعلان الاستقلال في عام 1971. ففي فبراير من العام 1968 اجتمع في منطقة السميح الحدودية بين أبوظبي ودبي كل من المغفور له الشيخ زايد بن سلطان حاكم أبوظبي والمغفور له الشيخ راشد بن سعيد حاكم دبي ليضعا أسس اتحاد ثنائي صغير لكنه أصبح بعد ذلك اتحاد أشمل هو اتحاد الإمارات. فلولا توفر الإرادة السياسية ووضع المصالح العامة فوق الخاصة والضيقة لما نجح ذلك الاتحاد في تخطي عقبات تأسيسه الأولية ولما أصبح بعد ذلك أنجح تجربة وحدوية في التاريخ العربي. أما الشعب فقد أدرك أن مصيره هو الوحدة وأنه لا مناص من وحدة تلم شمله وتوحد طاقاته وتجمع شتاته بعد تفرقة سياسية فرضت من قبل المستعمر الأجنبي والذي وضع حدودا مصطنعة بين الأشقاء كادت أن تخلق في هذه المنطقة حوالي ست عشرة إمارة صغيرة عوضا عن سبع. إذا كانت الإرادة السياسية والشعبية هي الصمام العفوي الذي أدى إلى نجاح تجربة الإمارات وأدى إلى إعلان قيام الاتحاد في عام 1971.
لحظة تاريخية أخرى في العام 1976 عندما تعرض الاتحاد لعقبة أخرى. فقد خير المغفور له الشيخ زايد الشعب بين بقائه أو تنازله ولكن الشعب أظهر عمقا في التجربة واختار بقاء زايد، ليس لأن زايدا قائد فذ فحسب بل لأنه رمز للأمة ويمثل الاستقرار للجميع كما يعني استمرار حالة التنمية في البلاد. عوضا عن أن تفت من قوة الأمة أثمرت تلك الأزمة عن توحيد القوات المسلحة ليصبح ذلك العام رمزا وحدويا في تاريخ الإمارات عوضا عن أن يكون عاما مترجرجا يؤثر على استقرار الاتحاد ويوهن عضده.
في العام 1979 تعرض الاتحاد لحالة أخرى من عدم الاستقرار السياسي كحالة أي كيان سياسي وليد، فلم يكن الاتحاد آنذاك قد تجاوز عقده الأول. حالة عدم الاستقرار تلك أثمرت عن موقف ايجابي سوف يكون في ذاكرة الأمة إلي الأبد. فقد أظهرت القيادة حكمة كبيرة في التعامل مع الموقف كما أظهر الشعب نضجا كبيرا حين التف حول قيادته يساندها حتى استقرت الأمور. فلم تتطور تلك المواقف إلى تطور عكسي أو مواجهة سياسية أو تفكير غير عقلاني يؤثر على استقرار الأمور أو يقود الجهود الوحدوية خطوة إلى الوراء.
وقد تكون فترة الثمانينات والتسعينات فترة استقرار وتطور ونمو داخلي ولكنها بالتأكيد ليست كذلك على الصعيد الإقليمي. فقد شهد الخليج حروبا ونزاعات مسلحة عديدة كان في إمكانها أن تصبح عامل عدم استقرار داخلي لو لم يحسن صناع القرار قيادة دفة السفينة بحكمة وحسن تدبير وبصيرة متيقظة، ساهمت إلى حد كبير ليس فقط في الحفاظ على المنجز الداخلي ولكن أيضا في رسم تلك الصورة المتألقة للإمارات في الخارج. العشرية الأولى من القرن الواحد والعشرين حملت معها الكثير من المتغيرات الايديولوجية والفكرية المتطرفة التي ساهمت في تغير وجه العالم بأسره. وعلى الرغم من تلك المتغيرات الراديكالية إلا أن الإمارات ظلت على سياساتها المرنة والمعتدلة لتكتسب سمعتها كواحة أمن وأمان ليس في المنطقة فحسب بل في العالم وليساهم ذلك العامل في توجيه الأنظار الخارجية بكثرة إلى تجربة الإمارات السياسية والاقتصادية بوصفها تجربة ناجحة يمكن تطبيقها في مناطق أخرى من العالم.
كما حمل العقد الأول منه أزمة اقتصادية طاحنة أطاحت بالكثير من المنجزات الاقتصادية. ولكن تطورات العشرية الأولى هذه ساهمت في تكريس الاتحاد أكثر عن ذي قبل كما رسخت فكرة أنه لا بديل عن الوحدة. إن لحظات الإمارات التاريخية لم تكن أبدا سهلة كما أن محطاتها لم تكن دوما سلسلة ومريحة ولكن توفر الإرادة السياسية والشعبية والرغبة المتجددة في حماية المنجز الاتحادي كان دوما هو الصمام الذي حمى وسوف يحمي تجربة الإمارات ويبقيها نضرة ومتجددة في محيط صعب.
* نقلاً عن صحيفة البيان .
